تثير أعمال القتل المنظم والترويع والتعذيب التي تمارسها أجهزة الأمن السورية ضد مواطنين عزل يطالبون بالحرية ذهول الرأي العام العربي والعالمي. ولا يكاد أحد يصدق ما يحصل. وقد سئلت بالفعل مرات عديدة من صحفيين عن تفسير هذا السلوك الذي لا يتفق مع أي منطق سياسي أو أخلاقي. وأكثر ما بدر لي في معظم إجاباتي يتعلق بنوعية العلاقة التي قامت، ثم تطورت على مدى عقود طويلة بين الحاكمين السوريين الحاليين والشعب، والتي بنيت منذ البداية على الإخضاع بالقوة المادية المجردة، مع رفض أي صورة من صور الحوار أو النقاش أو المساومة مع أبناء الشعب، والسعي الدائم بموازاة ذلك إلى تحويل الكذب والغش الفكري والسياسي والأخلاقي إلى أيديولوجية رسمية للنظام. ومع الوقت كان لا بد لعلاقة الإخضاع بالقوة هذه أن تنتج في وعي الحاكمين اقتناعاً راسخاً بأن القوة المنفلتة من أي قيد أو قانون هي الحماية الوحيدة للنظام، وفي موازاته اعتقاد لا يقل جنوناً عن الأول بأن المحكومين يستحقون هذه المعاملة لانحطاط أخلاقهم وتفكيرهم، ولا يفهمون لغة غيرها، تماماً كما هو شائع في خطاب الإسرائيليين تجاه الفلسطينيين والذي جعلهم يبررون، كما يفعل النظام السوري، تجريدهم من حقوقهم وانتهاك كرامتهم واستباحة دمائهم. وشيئاً فشيئاً يتكون لدى هؤلاء شعور عميق بأنهم ليسوا من طينة أعدائهم ولا هم يشبهونهم، وأن وجود أي من الطرفين على الأرض متوقف على موت الطرف الآخر وإخراجه كلياً من ميدان المنافسة والصراع. وفي هذا المستوى من التفكير لا يبقى هناك مكان لقانون ولا لمفهوم الحق ولا حتى لمفهوم الإنسان. من هنا كان لا بد للاستمرار في هذا النهج عند الحاكمين والمستعمرين من تطوير منطقين متوازيين يحكمان تفكيرهم ومشاعرهم معا تجاه محكوميهم. الأول منطق العنصرية الذي يقود إلى الاعتقاد العميق بأن مجتمع المسيطرين من طينة مختلفة تماماً عن مجتمع الخاضعين، وإلى نشوء علاقة بين الطرفين من نوع علاقة السيد بالعبد. وكما كان الحال في نموذج العبودية القديم، السيد هو بالتأكيد موطن الفضائل والقيم والأخلاق والمعبر عن هوية الإنسان المتحضر والراقي مهما فعل، أما العبد فهو موطن انعدام الأخلاق والعقل والأهلية. ولأن العبد لا شيء يذكر، فدمه أيضاً مباح، وليس لقتله معنى أو أهمية، فلا يسأل السيد عن قتل عبده ولا يحاسب عليه، وهو حقه المطلق، ولا يحق لاحد أن يتدخل فيه. ورسخ خضوع المحكومين أو استسلامهم أمام القوة لعقود طويلة هذا الشعور بالتفوق وبالحق في السيادة والسيطرة، والنظر إلى الآخر الخاضع بوصفه من سقط المتاع، يحق للسيد التصرف به وبحياته وأسرته كما يشاء. وأصبح يبدو مع الزمن طبيعياً، أي صالحاً سياسياً بوصفه أساس النظام والأمن والسلام، وأخلاقياً من حيث هو تعبير عن التفوق الطبيعي للسيد وحقه الذي لا يناقش في السيطرة واستخدام جميع وسائل العنف لإخضاع من ينظر إليهم على أنهم عديمو العقل والفضائل والأخلاق. وتكفلت الثقافة المرتبطة بالنظام في أن تحول هذا التفوق السياسي والأخلاقي المزعوم والمتوهم إلى واقع مادي مقبول ومستبطن لدى الحاكم والمحكوم على حد سواء بمقدار ما نجحت في إضفاء صفات التأخر والتخلف العقلي والجهل على الشعب، وفي حرمانه من أي فرصة للارتقاء في تفكيره وسلوكه إلى مستوى الشعور بالمسؤولية الجماعية أو التاريخية. ومن هنا لم ينفصل تأكيد مشروعية الاستخدام الدائم والمتزايد للعنف غير القانوني والتعسفي ضد الأفراد والمجتمع ككل، - مما شكل خصوصية النظام السوري خلال عقود، أكثر من احتكار السلطة التي يشاركه فيها كثير من النظم - عن تأكيد غياب الشعب مفهوماً وواقعاً، وبعده عن السياسة وتورط جميع أفراده في الفساد وافتقارهم لأي منظومة أخلاقية. وهو ما تسعى أيضاً فيديوهات الجثث المقطعة والمشوهة التي تبثها أجهزة الإعلام السورية اليوم باعتبارها من أعمال المحتجين، إلى تأكيده وترسيخه في وعي الناس أنفسهم حتى يقتنعوا جميعاً بأنهم منحطون وفاقدو الأهلية، وليس لهم أمل في البقاء والسلام والأمان إلا بالالتحاق بأسرتهم الحاكمة، رمز القوة المادية والكفيلة أيضاً بضمان صلاح الأخلاق العمومية. هنا نجد أصل الثقافة العنصرية التي طورتها النخبة السورية الحاكمة في العقود الماضية وحولتها إلى أيديولوجية مستبطنة، تبرر العزل والإقصاء واستسهال انتزاع الحقوق والبطش بمجتمع لم تعد ترى فيه سوى مهلوسين وجهلة وأميين وفاسدين وطائفيين وسلفيين. لكن العنصرية، بما تتضمنه من حط من هوية الشعب وتأكيد فساد أخلاقياته وافتراض تخلف قدراته العقلية وغياب تضامنه الوطني، ليست الوسيلة الوحيدة التي تستخدمها الثقافة القائمة لتبرير انتزاع حقوق الآخرين وامتهان كراماتهم وحرمانهم من الحرية، وفي ما بعد من الحق في الحياة. هناك ما هو أهم من ذلك في نظري. وهذا هو المنطق الثاني الذي طورته الطغمة السورية الحاكمة خلال العقود الطويلة الماضية. وهو منطق يتطابق أيضاً مع ما طورته الصهيونية في فلسطين، ويقوم على قلب المعادلة وتحويل الجلاد إلى ضحية والضحية إلى جلاد. فالفلسطينيون في نظر الإسرائيليين مجرمون بالولادة، وأطفالهم لا يقل إجرامهم عن راشديهم لأنهم يولدون وفي ذهنهم معاداة اليهود أو قتلهم. فهم مخربون مهما كان عمرهم وثقافتهم وانتماؤهم ومواقفهم المعلنة. وقتلهم جميعاً حلال بسبب أو من دون سبب. وإذا لم يحصل ذلك فلأسباب تكتيكية أو حسن أخلاق من الإسرائيليين لا غير. وهذا هو الحال بالنسبة للنظام السوري أيضاً. فالسوريون يولدون أيضاً مجرمين لأنهم فطروا على الطائفية والسلفية والتآمر مع الخارج ضد سلطة وحدت نفسها وهويتها مع العلمانية والتسامح الديني والوطنية. وهنا أيضاً لا يتأثر هذا المنطق بأي عامل تاريخي أو اجتماعي، فالسوري مسلم وطائفي وسلفي حتى لو ظهر غير ذلك. وكل ما يقوم به من نقد أو تردد في تأييد النظام وإعلان الولاء للسيد، "سيد الوطن" كما يقولون، ليس إلا إفصاح موارب عن هذه الطائفية المقيتة اللاصقة فيه وعن السلفية والوهابية التي لا تفارقه ولا يمكن له أن يعيش خارجها. وبوصفه كذلك فهو الذي ينتهك، لمجرد وجوده، حقوق الإنسان ويهدد الأقليات في وجودها وعقيدتها، ولا وسيلة لاتقاء شره سوى وضعه في زجاجة وإغلاقها عليه. بذلك يضمن كل إنسان، الإنسان الحقيقي، حياته وحرياته ويعيش بأمان. ومثل هذا المنطق هو ما لا تكف أجهزة الإعلام السورية التابعة للنظام عن تكراره وتكريسه في أذهان أنصارها وتابعيها. النتيجة الأخطر لهذا المنطق الذي يقوم على تشريع العنصرية واحتقار الفئة الخاضعة للسيطرة والمستعبدة، أو المحولة بالفعل وليس بالمجاز إلى عبيد، والتي تفسر ما يقوم به السيد من قتل وتعذيب وتشريد، من دون أن يرف له جفن، أو يشعر بأنه يرتكب جريمة، أو يخرق القانون، أو يدوس على حقوق الآخرين الشرعية، هي تخدير الضمير، أو قتل الإحساس والشعور الأخلاقي تماماً. وربما كان أفضل تعبير عن شلل الوعي الأخلاقي أو تحييد الضمير ما كتبه بعض المثقفين الإسرائيليين عندما اتهموا أطفال الحجارة في أول انتفاضة فلسطينية بأنهم هم المجرمون الحقيقيون لأنهم ورطوا بانتفاضتهم جنود إسرائيل "الذين لا يقلون عنهم براءة"، في كسر عظامهم وأجبروهم، دفاعاً عن أنفسهم، إلى إطلاق الرصاص عليهم. وليس من الصدفة أن كلمة صراصير وحثالة ومخربين وغيرها هي من التراث المشترك لدعاية الإسرائيليين التي واجهوا بها الفلسطينيين لإنكار شرعية قضيتهم ولأجهزة إعلام النظام السوري في مواجهتهم للمحتجين السلميين السوريين أيضاً، وكان القذافي قد اختار كلمة الجرذان ليعبر عن الاحتقار ذاته الذي كان يكنه لمحتجي ليبيا وشعبها المطالب بالتغيير والحرية.